Monday 18 July 2011

أسطورة الرجل البخَاخ

عن أساطير المعتقلات
by Bassel Sh on Sunday, 17 July 2011 at 18:34
أسطورة الرجل البخَاخ

ما زلت أذكر شعور الطمأنينة الذي أحسست به عندما رأيتها في آخر السرداب، جيفارا الجالسة في أرض ردهة فرع التحقيق وأنا أنزل الدرج مرتجفا بعد نوبة الجنون التي انتابت عناصر حفظ النظام منهالة على جسدي ورأسي باللكمات وعلى ركبي بالهراوات وتلاها أخيرا فقرة للرقص الشعبي دبكت فوقي على أغنية "أبو حافظ"... نزلت السرداب لتستقبلني عيناها الجميلة الهادئة، وفكرة واحدة تنتابني "كم هي قوية ...إهدأ أيها الجبان !"

 بعد التحقيق المجهد طيلة الليل وتخليصنا من كافة كماليات العالم الخارجي متضمنة أربطة الأحذية وأحزمة البناطيل وعلب الدخان الضرورية لاستمرار حياة بعض المتظاهرين، دخلنا مع صلاة الفجر إلى عنابر الفرع المظلمة.

لا أعتقد أن النور دخل هذا المكان منذ سنوات الحزب الأولى !

أسندت ظهري المتعب على طرف الحائط وأنا أراقب صدور الجثث المستلقية أمامي وهي تنتظم مع إيقاع الشخير الثقيل وهمهمات الليل المؤلمة.

هل قتلت أحدا أم أنك سرقت لتأكل فقط؟

أخذت أراقب بعض الصراصير وهي تتجول في الزنزانة، اعتقد ان اثنان منها واقعان في الحب، أحدهما يتبع الآخر أينما ذهب، لكنهما في النهاية استقرا على قدم السجين الثاني إلى اليسار.

هل تمارس الصراصير الجنس، أم انها تعشق من قرون الاستشعار؟

بحركة واحدة نفض الصرصارين العاشقين عن قدمه، ثم تحرك بجسده الفارع نحوالخلف مسندا ظهره إلى الحائط المقابل لي، عيناه الزرقاوان تلمعان تحت الضوء المتسلل من الردهة وأخاديد مشوهة تملأ جبهته العريضة. انتابتني قشعريرة مؤلمة وأنا أتتبع الجروح العميقة على تلك الجبهة، أسفل ذلك الوجه المجروح اكتشفت ابتسامة هادئة، لم أستطع ان أرد عليها بأخرى، اعتقد ان ظلام الزنزانة وجروحه قد قبضت على حنجرتي.

" لقدت أعدتم لي روحي".

تبا... لقد نطقت الجثة المشوهة التي أمامي ... هل قتلت أحدا أم أنك سرقت لتأكل فقط؟

سألته بتردد: "روحك؟"

ابتسامته الذكية ازدادت تألقا وسط الظلام، ثم انحنى نحوي فجأة متلهفا كطفل صغير "كم متظاهرا كنتم؟  لقد استرقت السمع عبر الردهة... ما هي الأخبار في الخارج؟ هل ابتدأت النهاية؟ "

منكمشا على نفسي من هذا الكائن الظلامي، همست مترددا " أعتقد اننا كنا فوق الخمسمئة".

أمسك بكتفي والرجاء يشع من عينيه: " أعتذر منك صديقي، لم أعد أسمع بأذني اليسرى ... أرجوك هنا ... نحو اليمين".

" اعتقد...فوق الخمسمئة"

" الله ... خمسمئة!"
 
عاد ليجلس مستندا إلى الحائط المقابل، راخيا رأسه الأصلع على صدره، بتناسق تام مع حائط الزنزانة، بكتفيه العريضين ولون جسده الرمادي ولا شيء يلمع إلا عينيه وتلك الجروح العميقة.

من الغريب كيف نجتمع عندما يطلق علينا الآخرون لقبا موحدا!

أخبرني عن بيته الجميل في أبو رمانة ووظيفته الرائعة كمدير في شركة أجنبية، عن والدته التي تبحث له عن عروس وعن حلمه ببدا عمله الخاص قريبا.

عندما سألته عن جبهته، أجابني: "في المنفردة، ستفعل أي شيء للتخلص من الجنون، أي شيء... ".

ما زالت رطبة ... أردت أن المس تلك الأخاديد العميقة على جبهته، وأن أتلمس عينه التي لم يعد يرى بها بشكل جيد، تلك الطمأنينة الدافئة التي نمت بيننا، وهذا الشعور الخفي بالاندساس والأمل ... تحولت هذه الزنزانة النتنة إلى مقهى يجلس فيها صديقان وبعض الصراصير العاشقة.

عن قصص الجدران والكتابة واختناق الصوت في الحنجرة، عن قصص التعذيب والتحقيق، وعن التجول في دمشق مكبل اليدين والقدمين ليدلهم على أمكنة الجريمة البشعة التي ارتكبها، ملاحقا بالناس في كل مكان، يكيلون له السباب ويتسابقون للوصول إليه وضربه "أيها الخائن العميل، أنت مجرم...." وعن قصص الزنزانات والحرية والوطن.  

"كم هو مؤلم أن يسلمك الشخص الذي التجأت إلى بيته... هل كل أهالي باب توما هكذا؟"

" أنا من باب توما! ...ما اسمك صديقي؟"

"أحمد، ولكني اعتدت اسمي الجديد .... يطلق علي المحققون هنا اسم  الرجل البخاخ، تستطيع أن تناديني الرجل البخاخ

No comments:

Post a Comment