Wednesday, 29 June 2011

إلى ذكرى الأصدقاء الذين تركناهم صامدين في عتمة الزنازين ...إلى كل الأحبة الذين تلوعوا في غيبتنا الطويلة

by Oroa Mokdad on Sunday, 26 June 2011 at 01:09
السلامُ على هذهِ الأرض المخضّبة بدِّماء الشهداء ...
السلامُ على وجوهٍ تلّمعُ في عتمةِ الزنازين، وتضحكُ كلّما رنّ سوط وقبّل جلوداً تشتدّ وتنتصبّ كنخلةٍ عالية ترنو إلى السّماء...
سلامٌ عليكم أيّها الأخوة المنسيون في غيابِةِ جبٍ سحيق...
السلامُ على سجانٍ علّمني أن أحبّه كلّما سالَ عرقه وأطفئ لهيبَ الألمِ في جسدي، كم كنا نحلم سويةً في الخروج من وراء تلك الجدران... السلامُ على جدرانٍ ملئناها بقصائد عن العشق والحرية...
السلامُ على كلّ قلبٍ تجمر ألماً في انتظار أوبتنا الطويلة...
السلامُ على وجهكِ الذي سال مع أشعة الشمس، واخترق جدران الزنزانة المظلمة، وغسل قلبي الملطخ بالقار وعلمني أن أحب الحياة....

خمسون يوماً مضت، ومازلتُ أتذكر انحدار الصباح تحتَ الأسلاك الشائكة، حيث كان الضوء يتسلّل مع النسمات الباردة التي تغمر وجعنا وألمنا، وتندسُّ في جلودنا حاملةً صوت الحناجر التي تهتف للحرية من كلّ الجهات؛ وتحمل معها وجوه من سقطوا على الأرض يقبلونها ويضمونها إليهم مثل عشيقة حرّة الأنفاس. وكلّما أرخيت جسدي مستسلماً لضجيج الذكرى شعرت أنّني لم أترك تلك الأصابع التي ضغطت على أصابعي ذات يوم، حيث هتفنا للحرية في الطرقات، واكتشفنا معنى الوطن بعيداً عن الكتب والنظريات والروايات والأشعار والقصص.... في الزنزانة (2) كُنا اثنا عشر سورياً من مختلف الأعمار والمناطق والمشارب... التحمت أجسادنا في ضيق الزنزانة... وترك العرق رائحته الثقيلة على قمصاننا الممزقة التي ضمدنا فيها بعضاً من جراحنا وبرّدنا بعضاً من آلامنا... حينها كُنا نشدُّ على أصابع بعضنا البعض، نهتف للحرية تارةً ويخنقنا البكاء تارةً أخرى، ونجترح الضحك لنصبّه في الأذان ونمنع وصول الصراخ المر إلى آذاننا، عندما يتخثر الفكر ويُصبح الجنون سوطاً طويلاً يمزّق اللحم الغض الطري ويسرق الأحلام (المشبوحة) على جدران الزنزانة، ويجتث خدر الأجساد من على البطانيات، التي تآخينا مع بقها وقملها... تلك الحشرات التي آنست وحشة ليلنا الطويل...وأنصتت لمغامراتنا وقصص عشقنا التي رويت بهمس يحفّه الرعب، فنبت للخيال المكسور أجنحة وطار إلى زوجة تسرّحُ شعرها وتنتظر... صبية تشبه القمر تسكر الهواء المتدفق فيترنح خجلاً وتحمله رسالة لمن تحب... دراجة ملقاة على الدرج... وأم تبتهل إلى الله... وأب يكدُّ على أدراج المشافي والأبنية المحصنة... وكان الوطن بسمائه وأرضه وترابه وأناسه يتسع في ضيق هذه الزنزانة، يمتدُّ ويتطاول، وينغرس في صدورنا، وينموا مع كلّ نفس يشي بأنّنا مازلنا أحياء.

وأنا أكتب هذه الكلمات أفكر بالتفاصيل والقصص الكثيرة التي أرغب في رويها، ولكن الآن تهاجمني تلك اللحظة التي خرجت فيها من السجن... كان رنين الجنزير الذي كبلّت فيها معاصمنا يشبه رنين الخلاخيل... انهالت علينا الأكف التي دفعت بخطواتنا المتعثرة إلى باب السجن، عندها غمرتنا الشمس الدافئة، وماجت في عظامنا، ولفحنا الهواء الذي احتجب عنا لعشرات الأيام وتدفقت الحياة فينا غزيرة طازجة كأننا لم نغادرها قط... وكان أخر صوتٍ سمعته صراخ رجلٍ شق جدران السجن وتجاوب صوته في أرجاء السماء... وفي كل لحظة ما زلت أسمع صوته يرنُّ في أذني حتّى امتزج مع صراخ آلاف الحناجر التي تهتف للحرية... وكأنّ أحدهما نتيجة للصوت الأخر؛ كأنّهما صوت واحد يملئ كياني ويرشد خطوتي ويشد أزري لمتابعة ذلك الطريق الذي بدأناه والذي اعتقدنا في كثير من لحظات الخوف والرعب والإحباط أن المسير فيه أثناء غيابنا قد توقف.

عروة

No comments:

Post a Comment