Monday 8 August 2011

نحن التاريخ

دي تسايتDie Zeit  
العدد 32 / 2011
بقلم: يان روس
هل فشلت الثورة العربية؟ هراء. الأمر يحتاج فقط إلى الكثير من الصبر حتى تنتصر الحرية

انتهى الربيع العربي. هل انتهت الثورة أيضا؟ أصبح كل شيء فجأة عسيرا على الفهم و مربكا بين التدخل في ليبيا، وبيع الدبابات الألمانية إلى المملكة العربية السعودية، وحرب المواقع الدموية التي يشنها النظام السوري ضد شعبه. في مصر، تجابه المعارضة القيادة العسكرية، و المعارضة الإسلامية تقف ضد المعارضة الليبرالية، والمعارضة الإسلامية المتشددة تقف بمواجهة المعارضة الإسلامية المعتدلة. فقدنا النظرة الشاملة للوضع: هل مقترحات العاهل المغربي الإصلاحية خدعة أم خطوة إلى الأمام؟ وما نوع الفوضى التي تسود في بلد الفوضى، اليمن؟ تبدو الثورة كما لم تكتمل بعد، أجهضت و تعثرت. حركت صور المتظاهرين السلميين في ميدان التحرير في القاهرة مشاعر العالم كله تقريباً كما حركته صور سقوط جدار برلين. هل استعجلنا الأمر؟ هل بالغنا في تقديرنا للثورة؟ هل خيبت أملنا، أو هل انتهت بالفعل؟ أسئلة صعبة، و لكن علينا ألا نتجنب طرحها. لم يتوقف أي شيء. تحدث أشياء كل يوم ترينا واقعاً جديداً لا يمكن إيقافه في الشرق الأوسط. الثورة "جزيئية" كما كانت دائماً عبر التاريخ.
المودعون يسحبون أموالهم من المصارف السورية و يحولونها الى بيروت أو اسطنبول. يعني ذلك، تصويتا اقتصاديا بحجب الثقة عن نظام الرئيس بشار الأسد، الذي ما زال يأمل في إنقاذ هيمنته باستخدام الدبابات والقناصة. أصيب كذلك، مواطنو إمارة قطر الخليجية بالعدوى، ليس تماماً على شكل الثورة، بل على شكل احتجاج استهلاكي، كنوع من العصيان المدني ضد شركات الهاتف الخليوي في بلدهم، فقاموا بإطفاء جماعي لهواتفهم المحمولة لمدة ساعة، لإجبار هذه الشركات على تخفيض أسعارها و تحسين خدماتها. أما طالبات كلية الطب في مصراتة، المدينة الليبية التي تقاوم جحافل نظام القذافي منذ أشهر، فتكافحن من أجل حقهن بتحصيل الخبرة العملية عند سرير المرضى أسوة بزملائهن الشباب. حق لهن، فرضه الواقع تقريباً بسبب الحصار، و الحاجة المستمرة لهن لإسعاف الجرحى. المنطقة بكاملها مليئة بقصص الفضول و القلاقل، و أيضاً بروايات الفشل و الألم، كما نرى من خلال آلاف الضحايا الذين سقطوا على الأغلب، ضحية لصراع النظام السوري من أجل بقائه. مع ذلك، لا يمكن لأحد أن يجادل في أن العالم العربي في صيف 2011، يختلف بشكل جذري عنه في صيف 2010. كلا، لم نبالغ بتقدير الثورة بأكثر مما تستحقه. لكننا، أجرينا بشأنها مقارنة تاريخياً مضللة، مقارنة تعطيها حقها من حيث شدتها، لكنها تبخسها حقها من حيث طبيعتها. حدث ذلك، عند مقارنتها مع ثورات 1989، الشبيهة بانهيار البيوت المبنية من أوراق اللعب، التي ميزت انهيار النظام الشيوعي في أوربا: اليوم في وارسو، غداً في بودابست و براغ، من ثم برلين الشرقية فبوخارست، و انتهاءً بموسكو. الثورة العربية التي انطلقت في منطقة يعيش فيها 350 مليون إنسان إلى موعد لقائهم التاريخي مع الحرية، هي بالفعل أهم حدثٌ جرى على وجه الأرض منذ انهيار المعسكر الشرقي وقوة الاتحاد السوفييتي العالمية، و معهما انهيار الأيديولوجية الماركسية اللينينية. لا تتبع الثورة العربية نمط 1989، الذي لم يكن في واقع الأمر ثورة نمطية على الإطلاق. بل كانت أكثر من ذلك استثناءً صارخاً.نحن نتجاهل هذه الحقيقة بسهولة، لأن تلك كانت ثورتنا. عاشها منا الذين هم الآن في منتصف أعمارهم أو في الشوط الأخير منها بوعي كامل، و يقارنون تلقائيا كل تقلب تاريخي بها. في واقع الأمر، كان وضع شعوب وسط أوروبا و أنظمتها في تلك الحقبة، فريداً للغاية: رؤية للعالم لم يعد أحد يؤمن بها الآن، ونظام سياسي بديل كان جاهزاً يومها في الغرب، و اتحاد أوروبي لم يكن بانتظار أعضاء جدد يستقبلهم، بل كان بانتظار العائدين إليه. كل هذا، يفسر السقوط المدوي وإعادة البناء السريعة. كما يفسر خيبة الأمل التي تصاحب مقارنة هذا النجاح السريع بأي فشل آخر. يتعين علينا بالأحرى، مقارنة الثورة العربية بحدث مناسب أكثر للمقارنة، وهو مع الثورات الأوربية التي حدثت في القرنين الثامن و التاسع عشر. بدءا من ثورة 1789 في فرنسا، إلى ثورات 1848 التي هزت أوربا، عندما انتفضت القارة بأكملها ضد الحكم الأجنبي و القمع الحادث في فرنسا، و ألمانيا، و بولونيا، و النمسا، و المجر، و إيطاليا. تلك كانت ثورات ثارت فيها البورجوازية، أي"الطبقة الثالثة" من "غير النبلاء"، ضد السلطة المهيمنة، و امتيازات الملكية، والطبقة الأرستقراطية، و ضد الكنسية. تلك هي الآن، حال الطبقة الوسطى المتعلمة العربية، و حال الجماهير المحبطة التي تثور على إقطاعيات القرن العشرين، وعلى جماعات المتسلطين الفاسدة. كافحت الثورات الأوربية من أجل تحقيق الرأسمالية، و المجتمع الليبرالي، و دولة القانون، و الديموقراطية. هذا هو ما يحدث الآن في العالم العربي بهدف الالتحاق بركب القرن الحادي و العشرين. الحاسم في الأمر: هو أن التاريخ الثوري في القرن التاسع عشر، كان عملية مضنية طال أمدها، و منيت بالعديد من النكسات، من ثورات تم القضاء عليها، وانتصارات منيت بالخسارة بسبب التطرف أو الجبن الذي أصابها. وتمت إعادة تنصيب أنظمة ملكية قديمة بواسطة انقلابات حدثت، أو نتيجة تدخل أجنبي. يومها، أرادت الدول الرجعية كبروسيا، و النمسا، و روسيا، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعد هزيمة نابوليون النهائية في الحروب الأوربية عام 1815، و نفيه إلى جزيرة القديسة هيلانة في المحيط الأطلسي . هذا الذي نصب نفسه إمبراطورا، لكنه كان مع ذلك، ما يزال يجسد بقايا من روح الثورة الفرنسية. كان هؤلاء يريدون إعادة فرنسا و القارة برمتها إلى الوقت ما قبل عام 1789. الأمراء الذين تمت إزاحتهم من قبل، أعيد تنصيبهم على عروشهم،. صاحب ذلك، ترسيخ الدولة الأمنية، وجواسيسها، وبصاصيها، و إرساء القمع فيها . لكن أهم ما في النقطة الثانية أن ذلك لم ينجح فعلاً. أدت إعادة النظام الملكي إلى قمع القوى الثورية لفترة، لكنه لم يكن قادراً على خنقها. كذلك، لم يستطع هذا "الترميم" إرجاع الوضع إلى ما كان عليه سابقاً. لم تعد فرنسا في عام ١٨٢٠ لما كانت عليه عام١٧٨٠. أصبحت واجهة لنظام سياسي كرتوني متقادم، يكمن وراءه بناء اجتماعي متجدد. تحول المجتمع بسرعة كبيرة إلى مجتمع "برجوازي"، حتى وإن استمر العديد من النبلاء يتمشون في أروقة الأغنياء الجدد، شامخين بأنوفهم تعالياً. تمت مراقبة الصحافة والتضييق عليها، لكنها بقيت تتقدم مع ذلك بقوة، ولم يكن بالإمكان القضاء عليها، كما يحصل الآن في العالم العربي عندما يظن أي ديكتاتور عربي أن بإمكانه التخلص من الإنترنت. حاول الماضي أن يقاوم، لكن لم يكن ما قام به سوى معارك إعاقة، إذ لم يعد بالإمكان كبح اندفاع تيارات الأعماق التاريخية نحو المستقبل. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، كل هذه الأزمات المتشابكة العديدة التي حصلت، وخاصة تلك النزعة الجامحة نحو التطور، كي يمكننا تقدير فرص نجاح الثورات العربية بشكل واقعي. لا يمكن بشكل قاطع، توقع نجاحات أكيدة على المديين القصير والمتوسط. إذ، لا يمكن فقط قمع الانتفاضات كما حدث في البحرين بمساعدة الدول الخليجية المجاورة، بل يمكن أيضا انتزاع النصر من ثورات كانت منتصرة. عاش لبنان عام 2005، حركة احتجاج ديمقراطية إثر حادث الاغتيال الفظيع لرئيس وزرائه السابق. نجحت تلك الحركة في طرد روح الخوف من ثقافة البلد السياسية، كما تم التخلص من تسلط الجار السوري الظلامي في شؤون الدولة اللبنانية. بدا وكأن البلد تحرر تماما وبعث من جديد. قدمت يومها ساحة الشهداء التي تجمع فيها متظاهرو بيروت نوعاً من الرؤية المستقبلية لما حصل لاحقا في ميدان التحرير في القاهرة. لكن، ظفرت سوريا و أعوانها اللبنانيون و إيران، القوة العظمى الحليفة في آخر المطاف، وأعادوا لبنان إلى حالة العجز السياسي السابقة. فشلت ثورة الأرز، وهو مصير قد يهدد أيضا الثورات العربية لعام 2011. لا خوف تقريباً على تونس و مصر، بلدي الطليعة في الثورة العربية، من التدخل الخارجي، لكن يبقى الاستيلاء على الحكم من قبل قواتهما المسلحة وترسيخ ديكتاتورية عسكرية فيهما خطر داهم. مع ذلك، أصبح احتمال عودتهما إلى حالتهما سابقا، بعيدا كبعد عودة النظم البائدة في أوربا القرن التاسع عشر. بل يتوقع، في حال حصول انعطافات حادة في سياسة الحكم المصرية، أو في حال قيام ثورة مضادة، أن تندفع الجماهير مجددا إلى ميدان التحرير في القاهرة، تماماً كما فعلت ضد مبارك. حتى وإن حصل ذلك، فلن يعني ذلك العودة إلى نقطة الصفر، إلى وضع كما كان سائدا إبان النظام السابق، لأن الشعب لم يعد كما كان عليه: فقد سبق واختبر الشعب مقدار قوته، وأركع الحكام مرة، وحتماً سيجد طريقة لفعل ذلك مرة أخرى. ليست هذه الثورة متعلقة فقط بتغير موازين القوى فحسب، بل هي متعلقة كذلك بتغير الناس، بتحررهم من سلبيتهم التي امتدت لعقود، وبتغلبهم على خوفهم، و استرجاعهم لذلك العنصر الأساسي، الذي كان القاسم المشترك والأساس لكل الثورات في عام 2011: الكرامة، وهذه لا يمكن لأحد أن ينقلب عليها. لذلك، و في هذه الحالة أيضاً فإن المعطيات الأساسية تقف إلى جانب الثوار، تماما كما كان الوضع عليه عندما صعدت البورجوازية وانتصرت الحداثة في أوربا. عالم الاجتماع الفرنسي ايمانويل تود، الذي توقع، من خلال رؤيا تثير الرعشة، سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم الأزمة الحادثة في الولايات المتحدة، وأخيرا الثورة التقدمية في العالم الإسلامي، لاحظ ما يلي: أنها بالرغم من كل تخلفها، فإن المجتمعات العربية-الإسلامية كانت تسير على درب الحداثة منذ زمن بعيد، بموازاة مع زيادة في مستويات التعليم، وانخفاض في معدلات الولادة. كما أصبحت متطلبات هذه المجتمعات أكبر، وتبدلت فيها العلاقات القائمة بين الرجال والنساء؛ ولم يعد الأولاد الذين حصلوا على درجات تعليمية، يتقبلون فكرة تفوق أهلهم الأميين عليهم. في الظاهر، كان يبدو كل شيء محافظاً و أبوياً كما في السابق، لكن سلطة الآباء التي هي تجسيد لكل السلطات، بدأت بالفعل تتضعضع بمواكبة باقي السلطات. يتابع تود قوله، إن استطاعة المرء القراءة و الكتابة لا يمكن أن تبقى بدون عواقب على المجتمع والدولة. يمكن للمرء عندئذ قراءة المنشورات وفهمها، أو حتى كتابتها. تصبح المشاركة السياسية في هذه الحالة عملية طبيعية. ويتابع تود مقارنته مع تاريخ أوروبا، قائلا: اندلعت الثورة الفرنسية عندما كان بإمكان خمسين في المئة من الناس في الحوض الباريسي الكتابة. لذا، هو لا يجد التغيرات الحادثة حاليا، بطيئة تدعو إلى خيبة الأمل، مقارنة بما حصل آنذاك، بل على العكس. فرنسا، التي كانت الدولة الأكثر تقدما في القارة، احتاجت الى نحو قرن من التشنجات السياسية الرهيبة، حتى تسنى لها إنشاء تلك الجمهورية البرجوازية المستقرة إلى حد معقول، والتي كانت بالأصل هدف ثورة 1789. بالمقارنة مع ذلك، تبدو العملية الانتقالية الحالية في المجتمعات العربية-الإسلامية، مكثفة إلى حد بعيد، و ثقتها في وجهتها أكيدة بشكل مدهش. لا توجد حاليا دولة عربية معزولة إلى الحد أن مواطنيها يجهلون فيها كيف يعيش المرء بشكل محترم في القرن الحادي و العشرين، و كيف على دولة محترمة أن تتعامل مع مواطنيها. هناك الآن معايير عالمية تتعلق بأمور مختلفة، تمتد من كيف يجب أن تكون عليه الكفاءة الاقتصادية، إلى حقوق الإنسان التي لا يمكن تجاوزها بلا اعتراض، وهي التي تحدد الآن وجهة الحركات الاحتجاجية. يمكن للمرء أن يفكر، من أنه يحتاج قبل كل شيء إلى الشجاعة في الثورات، وهي عنصر بالطبع فائق الأهمية. لكن الأهم منها، هو الصبر – بدءا من ممارسة كيفية حبس النَفَس في الصراع مع النظام، إلى رباطة الجأش التي يجب أن يتحلى بها الشعب بعد انتصار ثورته، في تحمل تبعات العهد الماضي العديدة، وإمكانية استمرار بقاء الفقر وانخفاض مستويات المعيشة في مرحلة أولى، والتي ستكون أسوأ وليس أفضل. على الشعوب العربية في الشهور القادمة، أن تحشد كامل جَلَدها و قدرتها على التحمل. أما نحن، الذين بإمكانهم المساعدة في أحيان قليلة، وغالبا ليس بإمكاننا سوى مشاهدة ما يحدث، يتوجب علينا على الأقل كنظارة، أن نساهم بتواضع في هذا الصبر الثوري.

ترجمة: د. فراس الصالح
تنقيح: د. علي الصالح

No comments:

Post a Comment