Sunday 26 June 2011

″طبقة″ الفرص الضائعة في سوريا

ترددت قبل أن أكتب هذه الأسطر حتى لا أصيب من سيقرؤني بإحباط فوق الإحباط الذي يشعر به بعضنا نحن المثقفين الآن، مع تردد وفقدان للجرأة في اتخاذ موقف واضح تجاه الأحداث الجسام التي يمر بها بلدنا الحبيب، لكن أيضا لعدم التأكد من أن ما جرى ويجري هو فرصة أخرى في سلسلة الفرص الضائعة من تاريخنا الطويل، فربما لم تفت الفرصة الحالية بعد أو تشارف على نهايتها.
أنا لست محللا أو كاتبا سياسيا، بل باحثا اقتصاديا، لكن ما شجعني على قبول التحدي، هو ما قرأته مؤخرا من نقد لتصرف بعض المثقفين والفنانين السوريين الذين حزموا أمرهم ومالئوا النظام، إما اقتناعا أو رياء كعادة مثقفي السلطة ومشايخها في هذه البلاد. قال من انتقد الفنانين، إنه في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، كل من وقف، ويقف، ضد المطالب العادلة بالديمقراطية والحرية والعدالة للشعوب هو الخاسر، فلسنا أمام موضوعات جدلية أو خلافية، نحن أمام قيم إنسانية أساسية من يتنكر لها فلا قيمة لفنه أو أدبه أو ثقافته.
بشكل عام، ينقسم السوريون في ولاءاتهم إلى ثلاث فئات. فئة أولى من الناس تدعم انتفاضة الشارع بحماس كبير بسبب يأسهم وما يشعرون به من إحباط تجاه الواقع اليومي، والحياتي، والمصيري المعاش في البلد. وفئة ثانية تدعم النظام بسبب استفادتها المباشرة منه خصوصاً المقربين منهم من رأس هرم السلطة المتمثل بالأجهزة الأمنية، وأمراء عسكر الحلقة، والحكام، وكبار موظفي الدولة، لكن أيضا كبار رجال الأعمال الذين استفادوا مما دعي بالانفتاح الاقتصادي، ودخلوا في شراكة مع أفراد من السلطة نفسها. أما الفئة الثالثة، فتتألف ممن يمالئ النظام، من شريحة التجار التقليديين، وأصحاب المصالح والمهن، وأكثر المثقفين، أي معظم ″الطبقة″ الوسطى التي تنظر برعب كيف تستحيل المدن السورية إلى مجمعات عسكرية لأول مرة في تاريخ سوريا الحديث، وترى في المظاهرات مقدمة لحرب أهلية أو سيناريو ليبي آخر سيؤدي حتما باعتقادهم إلى تدخل خارجي طالما شكل الهاجس الأكبر لدى أبناء الشعب السوري. يزكي هذا التوجس الأخير النظام نفسه الذي جعل منه شماعة لكسب تأييد هذه الفئة في نهاية الأمر.
هنا تدلي خولة دنيا (هكذا ورد اسمها على صفحات الإنترنت) بدلوها في وصف الأحداث قائلة أن لا أمل يرجى من المثقفين. وتختتم خولة صفحتها قائلة لهؤلاء المثقفين الذين أثاروا يأسها: ″كيف تبررون وقوفكم مع نظام اعتقل طائفة بأكملها لمصالحه وللدفاع عن هذه المصالح، بحجة دفاع الأقليات عن وجودها؟ كيف تبرروا وقوفكم للدفاع عن النظام الأمني الذي قمعكم لعشرات السنين، ويريد اليوم الاحتماء بطهارتكم بوجه الشعب؟ أسئلة كثيرة لا أجد لها جواباً سوى: إنه السقوط الأخلاقي للمثقف السوري المعارض في معادلة الثورة الحقيقية وهو ما أراه وجهاً آخر للخوف من مجريات ثورة ما فتئتم تطالبون بحدوثها وتنصلتم منها حين قامت″. ربما بالغت خولة هنا بعض الشيء عندما اتهمت المثقفين بالدفاع عن الجهاز الأمني الذي قمعهم طوال ما مضى من سنين. لكن، ذلك لا يغير كثيرا من حقيقة ما قالته.
وتتراوح اجتهادات هؤلاء المثقفين الذين أثاروا يأس خولة، بين موقف أدونيس من السلطة الذي وجه مؤخرا رسالة إلى الرئيس يعتقد فيها جازما أن الإصلاح يمكن أن يتم عن طريق النظام، مرورا بموقف الصديق ميشيل كيلو الذي وضع شروطا للحوار حول الإصلاح مع النظام نفسه للخروج معا من الأزمة، لاعتقاده أن لا سبيل آخر لتجنيب سوريا وشعبها كارثة محققة. بمعنى آخر، يأس خولة بمحله من أن ترى في وقت قريب، بعضا من كبار مثقفي بلدها يتقدم صفوف المتظاهرين كاشفا عن صدره، وملوحا بعلم الثورة كصاحبة تلك الصورة الشهيرة أيام الثورة الفرنسية التي أشارت إليها خولة في صفحتها.
خولة تبدي يأسها وفي مخيلتها صورة مثقفي الطبقة الوسطى الفرنسية أمثال ميرابو، ودانتون، وروبيسبيير، ومفكريها العظام أمثال فولتير وروسو، الذين أسسوا وقادوا تلك الثورة على الاستبداد، قبل أن تنكفئ هذه الثورة مرحليا بأيدي عسكر نابوليون الذين استبدلوا استبدادا باستبداد أمرّ وأدهى من سابقه، لأنه جاء متخفيا وملتحفا بشعارات الثورة نفسها في الحرية، والمساواة، والإخاء، ليلتف عليها وعلى عشرات الآلاف ممن ضحوا بحياتهم من أجلها.
لا تكمن مشكلتنا فقط في من لا يتقدم الصفوف من المثقفين. هذا لا يكفي لتفسير غياب جموع غفيرة من المنتفضين في كل من دمشق وحلب، بينما نرى الانتفاضة تبدأ في البلدات، والمدن الصغيرة، والوسطى منها القريبة أكثر من غيرها إلى الريف السوري، لتقمع على أيدي أبناء الريف نفسه من الذين اعتقلهم النظام للدفاع عن مصالحه، حسب تعبير خولة، موهما إياهم من أن استمرار وجوده هو حماية لهم ولحياتهم. أنا لا أريد أن أخوض كثيرا الآن في تحليل تاريخي، واجتماعي ديموغرافي يستغرق صفحات وصفحات، لسنا الآن بصدده لتسارع الأحداث، لكن يجب إتمامه في يوم من الأيام.
هناك تفسير أولي لذلك، لكنه لا يكفي لتفسير هذه الظاهرة بكل جوانبها. العنصر الأول، هو أن الحاضرتين الكبيرتين، خاصة دمشق، لم تعودا تتمتعان بنسيج سكاني متجانس كما في السابق يسمح بحراك اجتماعي أسهل، نتيجة التغييرات الاجتماعية الكبيرة التي طرأت عليهما منذ الاستقلال وحتى الآن، من هجرة مكثفة للريف إليهما، إما للبحث عن لقمة العيش فيهما نظرا لخطأ السياسة الإنمائية المتبعة التي تركزت على توفير فرص العمل فيهما على حساب باقي البلد، أو للعمل في أجهزة الدولة المركزية، أمنية كانت أو عسكرية، فدمشق نفسها تقع في عمق الجبهة مع العدو، وتكاد أن تكون مدينة حدودية. هذا يفسر مثلا، كيف أنه باستطاعة النظام إلقاء عشرات الآلاف من موظفين، وأمنيين، وغيرهم من أبناء "الطبقة" الوسطى وصغار الكسبة، ونقلهم من أحيائهم أو أماكن عملهم إلى أماكن التجمع الواسعة في ساحات المدينة الرئيسية باستخدام وسائط النقل العامة، بينما يحرم من ذلك المنتفضين الذين لا يملكون سوى الانطلاق من الجوامع ليتظاهروا في الأزقة والحارات متخفين تحت جنح الظلام، أو في ضواحي المدينة المترامية حيث أحزمة الفقر، ليعانوا من بطش السلطة والتنكيل بهم، وإطلاق الرصاص عليهم.
أما العنصر الثاني، فهي التركيبة الاجتماعية نفسها في مدينة كدمشق. دمشق بلا روح، بلا طبقة وسطى، بالمعنى الدقيق للكلمة. لم تنشأ لدينا طبقات اجتماعية متماسكة كما هي الحال مثلا في أوروبا، بل شرائح اجتماعية ضعيفة البنيان. في أوروبا، هي الطبقة الوسطى التي أنشأت عصر التنوير فيها، وأحدثت الثورة الصناعية، منها كان المخترعون، والشعراء، والكتاب، والمفكرون، الذين قادوا الثورات الاجتماعية هناك، حتى تلك التي حدثت باسم العمال والفلاحين. هناك أيضا حدثت هجرات واسعة من الأرياف إلى المدن، لكنها لم تريّف المدن كما حدث عندنا، أو تعيق من تقدمها بوتيرة أسرع. هناك حدث العكس. جاءت الهجرات الريفية فوجدت أمامها بنيانا مدينيا مكتملا قام بهضمهم: مجتمع مديني متين ومتمايز طبقيا، كانت هناك طبقة النبلاء، والطبقة البرجوازية وشريحتها العليا المتحالفة مع النظام الملكي، وتلك الشريحة الوسطى منها التي انحازت إلى جانب طبقة العمال والفلاحين، مشكلة قاطرة الحراك الاجتماعي والتقدم في كل المجالات. لكن بالمقابل، إذا كانت هي التي حققت الوحدتين الألمانية والإيطالية، فهي أيضا من أوقد نار الحربين العالميتين، وهي من قاد الحروب الاستعمارية في القرنين الأخيرين.
أما عندنا، فلم تكن "الطبقة" الوسطى المدينية هي من أسس دولة الحداثة منذ قدوم البعث. بل العكس صحيح. النظام البعثي هو الذي أوجد، أو كان في أساس نشوء الشرائح الاجتماعية المختلفة التي نشاهدها اليوم، سلبا أم إيجابا. لم تكن هذه الظاهرة شيئا مستجدا في تاريخنا، لكن لا مجال الآن للتوقف عندها كثيرا.
أكتفي هنا بالقول، من أن مختلف الشرائح الاجتماعية الجديدة العاملة في المجالات، اقتصادية كانت أو ثقافية، أو غير ذلك، نشأت إلى حد كبير نتيجة السياسات التي أسس لها النظام. إضافة إلى ذلك، جملة التحولات الاجتماعية الكبيرة التي شاهدتها البلاد منذ تسعينات القرن الماضي التي تمثلت ب"انفتاح مجتمعي" على الآخر، بهدف تجاوز المناطقية الضيقة، لتكوين مجتمع سوري يتمحور حول نظام يحابي من يشاء، ويكافئ، ويعاقب من يشاء من رعاياه، مستخدما بمهارة كل الوسائل المتاحة له لتكييف علاقاته بباقي البلد، كما يشتهي لها أن تكون.
هكذا نشأت مثلا "البورجوازية" السورية الحالية التي تضم شرائح اجتماعية عدة، تنعم بحوافز مادية توفرها لها سلطة تحسن "توزيع موارد" الخزينة على حلفائها في المجتمع أكثر منه على إدارة ناجعة للقطاعات المنتجة في الاقتصاد الوطني لخير كل الشعب.
خلاصة القول، هذا يفسر بعض ما يجري أو لا يجري في دمشق وحلب كما كانت تشتهي له خولة أن يكون. لا يشكل ذلك بالطبع عذرا لأمثالي من شيوخ المثقفين. ومع أني أكبر سنا من ميشيل كيلو الذي عانى قهرا، وتهجيرا، وسجنا، لكني لم أتقاعس قط عن النزول إلى الشارع خلال حياتي، داخل وخارج سوريا، بصحبة زوجتي والآن بدونها بعد أن توفيت مؤخرا. كنت من الموقعين على بيان التسعة والتسعين، ومن بين من تظاهروا أمام السفارة الليبية قبل أشهر ثلاثة، لكني عاهدت نفسي يومها، وكان جدار الخوف لم يكسر بعد، أن لا أنزل مجددا إلى الشارع إلا بصحبة مئة ألف من الشباب، وإلا فلا. والآن، بعد أن انتقل الكلام إلى لغة الدبابات والدماء، فإن التفكير بمجرد تغيير سلوك النظام ليس ناجعا، والطلب منه أو انتظاره أن يقوم بنفسه بتقويض أسس دولته الأمنية لصالح دولة القانون، هو كمن يطلب من النظام أن ينحر نفسه بنفسه، ودعوته للحوار مع معارضيه ومسدسه موجه إلى صدغهم، لن يؤدي إلا لدوام الظلم، والقهر، وغياب الحرية التي سفك الشباب دماءهم لأجلها.
ما الحل إذن؟ أخشى أن أردد هنا ما قاله أحدهم، والألم يعصرني، ليس هناك سوى الدماء والدموع. لكن، عندها تكون سوريا التي نحبها كلنا قد اتشحت بالسواد.

د. علي الصالح، باحث اقتصادي.

No comments:

Post a Comment